فصل: من فوائد ابن عرفة في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فائدة في قول: اتق الله:

قال عبد الله بن مسعود: إن من أكبر الذنب عند الله أن يقال: للعبد اتق الله فيقول: عليك بنفسك. وروي أنه قيل لعمر بن الخطاب: اتق الله، فوضع خده على الأرض تواضعا لله عز وجل. اهـ.
قال العلماء: إذا قال الخصم للقاضي: اعدل ونحوه له أن يعزره، وإذا قال له: اتق الله لا يعزره. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المهاد}.
قال ابن عرفة: الآية لها منطوق ومفهوم والتقدير: لم يتق لأجل ما نالته من العزة بسبب الإثم واكتفى عن ذلك المفهوم فذكر علته. وفي كتاب الأقضية والشهادة فيمن قال له القاضي أو غيره: اتّق الله فإنّه يقول له: اللّهم اجعلنا من المتّقين، لئلا يدخل في ضمن هاته الآية. قال: ولا ينبغي أن يقول أحد لأحد: اتّق الله، فإنه تعريض له لعدم التقوى. اهـ.

.لطيفة في ذكر معاني الذكر:

قال السيوطي:
الذكر ورد على أوجه:
ذكر اللسان فاذكروا الله كذكركم آباءكم.
وذكر القلب ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم.
والحفظ واذكروا ما فيه.
والطاعة والجزاء فاذكروني أذكركم.
والصلوات الخمس فإذا أمنتم فاذكروا الله.
والعظة فلما نسوا ما ذكروا به وذكر فإن الذكرى.
والبيان أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم.
والحديث اذكرني عند ربك أي حدثه بحالي.
والقرآن ومن أعرض عن ذكري ما يأتيهم من ذكر.
والتوراة فاسألوا أهل الذكر.
والخبر سأتلوا عليكم منه ذكرا.
والشرف وإنه لذكر لك.
والعيب أهذا الذي يذكر آلهتكم.
واللوح المحفوظ من بعد الذكر.
والثناء وذكر الله كثيرا.
والوحي فالتاليات ذكرا.
والرسول ذكرا رسولا.
والصلاة ولذكر الله أكبر.
وصلاة الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله.
وصلاة العصر عن ذكر ربي. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)}.
قوله: {مَعْدُودَاتٍ} صفة لأيام، وقد تقدَّم أن صفة ما لا يعقل يطَّرد جمعها بالألف والتاء، وقد ذكر أبو البقاء هنا سؤالًا؛ فقال: إن قيل الأيَّام واحدها يَوْم والمَعْدُودَات واحدتها مَعْدُودَةٌ، واليوم لا يوصف بمعدودة، لأنَّ الصفة هنا مؤنثة، والموصوف مذكَّر، وإنما الوجه أن يقال: أَيَامٌ مَعْدُودَةٌ فتصف الجمع بالمؤنث، فالجواب أنه أجرى {مَعْدُودَاتٍ} على لفظ {أَيَّام} وقابل الجمع بالجمع مجازًا، والأصل مَعْدُودَة؛ كما قال: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80]، ولو قيل: إن الإيام تشتمل على السَّاعات، والساعة مؤنَّثة، فجاء الجمع على معنى ساعات الأيَّام، وفيه تنبيه على الأمر بالذِّكر في كلِّ ساعات هذه الأيام، أو في معظمها، لكان جوابًا سديدًا، ونظير ذلك الشهر والصَّيف والشتاء؛ فإنها يجاب بها عن كَمْ، وكَمْ إنما يجاب عنها بالعدد، وألفاظ هذه الأشياء ليست عددًا، وإنما هي أسماء المعدودات، فكانت جوابًا من هذا الوجه.
قال شهاب الدين وهذا تطويل من غير فائدةٍ، وقوله: مفرد معدوداتٍ معودةٌ بالتأنيث ممنوعٌ، بل مفردها مَعْدُود بالتذكير، ولا يضرُّ جمعه بالألف والتاء، إذ الجمع بالألف والتاء لا يستدعي تأنيث المفرد؛ ألا ترى إلى قولهم: حمَّمات وسجلاَّت وسرادقات.
قال الكوفيُّون: الألف والتَّاء في {مَعْدُودَاتٍ} لأقلِّ العدد.
وقال البصريُّون: هما للقليل والكثير؛ بدليل قوله تعالى: {وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ} [سبأ: 37] والغرفات كثيرة.
قوله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} مَنْ يجوز فيها وجهان:
أحدهما: أن تكون شرطيةٌ، ف {تَعَجَّلَ} في محلِّ جزمٍ، والفاء في قوله: {فَلاَ} جواب الشرط والفاء وما في حَيِّزها في محلِّ جزم أيضًا على الجواب.
والثاني: أنها موصولة ب {تَعَجَّلَ} فلا محلَّ ل {تَعَجَّلَ} لوقوعه صلةً، ولفظه ماضٍ، ومعناه يحتمل المضيَّ والاستقبال؛ لأنَّ كلَّ ما وقع صلةً، فهذا حكمه؛ والفاء في {فَلاَ} زائدة في الخبر، وهي وما بعدها في محلِّ رفع خبرًا للمبتدأ.
قال القرطبي: مَنْ في قوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ} رفع بالابتداء، والخبر {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ}، ويجوز في غير القرآن، فلا إثْمَ عَلَيْهِم؛ لأن معنى مَنْ جماعة؛ كقوله تبارك وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42]، وكذلك {مَنْ تأَخَّرَ}.
و{في يَوْمَيْنٍ} متعلِّق ب {تَعَجَّلَ} ولابد من ارتكاب مجازٍ؛ لأن الفعل الواقع في الظرف المعدود يستلزم أن يكون واقعًا في كلٍّ من معدوداته، تقول: سِرْتُ يَوْمَيْنِ لابد وأن يكون السير وقع في الأول والثاني وبعض الثاني، وهنا لا يقع التعجيل في اليوم الأول من هذين اليومين بوجهٍ، ووجه المجاز: إمَّا من حيث إنَّه نسب الواقع في أحدهما واقعًا فيها؛ كقوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] و{يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]، والنَّاسي أحدهما: وكذلك المخرج من أحدهما، وإمَّا من حيث حذف مضاف، أي: في تمام يومين أو كمالهما.
و{تَعَجَّلَ} يجوز أن يكون بمعنى اسْتَعْجَلَ كتَكَبَّرَ، واسْتَكْبَرَ، أو مطاوعًا لعَجَّل نحو كَسَّرْتُه فَتَكَسَّرَ، أو بمعنى المجرَّد، وهو عِجِلَ، قال الزمخشريُّ: والمطاوعة أوفَقُ؛ لقوله: {ومَنْ تَأَخَّرَ}؛ كما هي في قوله: البسيط:
قَدْ يُدْرِكُ الْمَتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ ** وَقَدْ يَكُونُ مَعَ المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ

لأجل قوله المُتَأَنِّي.
وتَعَجَّلَ واسْتَعْجَلَ يكونان لازمين ومتعدِّييثن، ومتعلِّق التعجيل محذوف، فيجوز أن تقدِّره مفعولًا صريحًا، أي: من تعجَّل النَّفر، وأن تقدِّره مجرورًا أي: بالنَّفر، حسب استعماله لازمًا ومتعدِّيًا.
وفي هذه الآيات من علم البديع: الطباق، وهو ذكر الشيء وضده في تَعَجَّل وتَأَخَّرَ، فهو كقوله: {أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] و{أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: 44]، وهذا طباقٌ غريب، من حيث جعل ضدَّ {تَعَجَّلَ}: {تَأَخَّرَ}، وإنما ضدُّ تَعَجَّلَ: تَأَنَّى، وضدُّ تَأَخَّرَ: تقدَّم، ولكنه في {تَعَجَّلَ} عبرَّ بالملزوم عن اللازم، وفي {تَأَخَّرَ} باللازم عن الملزوم، وفيها من علم البيان: المقابلة اللفظيَّة، وذلك أن المتأخِّر بالنَّفرات آتٍ بزيادة في العبادة، فله زيادة في الأجر على المتعجِّل، فقال في حقه أيضًا: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ}؛ ليقابل قوله أولًا: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ}، فهو كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194].

.فصل في قراءة: {فَلاَ إِثْمَ}:

وقرأ الجمهور {فَلاَ إِثْمَ} بقطع الهمزة على الأصل، وقرأ سالم بن عبد الله: {فَلاَ إثْمَ} بوصلها وحذلف ألف لا، ووجهه أنه خفَّف الهمزة بين بين فقربت من الساكن، فحذفها؛ تشبيهًا بالألف، فالتقى ساكنان: ألف {لاَ} وثاء {إِثْم}، فحذفت ألف {لاَ}، لالتقاء الساكنين.
وقال أبو البقاء رحمه الله تعالى: ووجهُها أنَّه لمَّا خَلَطَ الاسْمَ بلَا حَذَفَ الهمزة؛ تشبيهًا بالألف يعني أنه لمَّا ركِّبت لَا مع اسمها، صارا كالشيء الواحد، والهمزة شبيهة الألف، فكأنه اجتمع ألفان، فحذفت الثانية لذلك، ثم حذفت الألف لسكونها وسكون الثَّاء.
قوله تعالى: {مَنْ يُعْجِبُكَ} يجوز في {مَنْ} أن تكون موصولة، وأن تكون نكرةً موصوفةً، وقد تقدَّم نظيرها، والإعجاب: استحسان الشيء، والميل إليه، والتعظيم له، والهمزة فيه للتعدِّي.
وقال الراغب: العَجَبُ حَيْرَةٌ تَعْرَضُ للإنسان عند الجهل بسبب الشَّيء، وليس هو شيئًا له في ذاته حالةً، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السَّبب ومن لا يعرفه، وحقيقة: أعجبني كذا: ظهر لي ظهورًا لم أعرف سببه، ويقال: عجبت من كذا، قال القائل: الرجز:
عَجِبْتُ وَالدَّهْرُ كَثِيرٌ عَجَبُهْ ** مِنْ عَنَزِيَّ سَبَّنِي لَمْ أَضْرِبُهْ

قال بعض المفسِّرين: يقال في الاستحسان: أعجبني كذا، وفي الإنكار والكراهة: عجبت من كذا.
قوله: {في الحَيَاةِ} فيه وجهان:
أحدهما: أن يتعلق ب {قَوْلُهُ} أي: يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا، أنَّ ادِّعاءه المحبة بالباطل يطلب حظًّا من الدنيا.
والثاني: أن يتعلَّق ب {يُعْجِبُكَ}، أي: قوله حلوٌ فصيحٌ في الدُّنيا، فهو يعجبك ولا يعجبك في الآخرة، لما يرهقه في الموقف من الاحتباس واللُّكنة، أو لأنه لا يؤذن لهم في الكلام، قال أبو حيان: والذي يظهر أنه متعلِّق ب {يُعْجِبُكَ}، لا على المعنى الذي قاله الزمخشري، بل على معنى أنك تستحسن مقالته دائمًا في مدَّة حياته؛ إذ لا يصدر منه من القول إلا ما هو معجبٌ رائقٌ لطيفٌن فمقالته في الظاهر معجبة دائمًا، لا تراه يعدل عن تلك المقالة الحسنة الرائعة إلى مقالةٍ منافيةٍط.
قوله: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ} في هذه الجملة وجهان:
أظهرهما: أنها عطف على {يُعْجِبُكَ}، فهي صلة لا محلَّ لها من الإعراب، أو صفةٌ، فتكون في محلِّ رفع على حسب القولين في مَنْ.
والثاني: أن تكون حاليةً، وفي صاحبها حينئذً وجهان:
أحدهما: أنه الضمير المرفوع المستكن في {يُعْجِبُكَ}.
والثاني: أنه الضمير المجرور في {قَوْلُهُ} تقديره: يعجبك أن يقول في أمر الدنيا، مقسمًا على ذلك.
وفي جعلها حالًا نظر وجهين:
أحدهما: من جهة المعنى، فإنه يلزم منه أن يكون الإعجاب والقول مقيدين بحالٍ، والظاهر خلافه.
والثاني: من جهة الصِّناعة وهو أنَّه مثبتٌ، فلا يقع حالًا إلا في شذوذٍ؛ نحو: قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ أو ضرورةً؛ نحو: المتقارب:
...... ** نَجَوْتُ وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكَا

وتقديره مبتدأً قبله على خلاف الأصل، أي: وهو يشهد.
والجمهور على ضمِّ حرف المضارعة وكسر الهاء، مأخوذًا من أَشْهَدَ ونصب الجلالة مفعولًا به، وقرأ أبو حيوة وابن محيصنٍ بفتحهما ورفع الجلالة فاعلًا.
قال القرطبيُّ رحمه الله تعالى ويؤيِّده قراءة ابن عباسٍ {واللَّهُ يَشْهَدُ عَلَى مَا في قَلْبِهِ}. وقرأ أُبَيٌّ: {يَسْتَشْهِدُ اللَّهَ}. فأمَّا قراءة الجمهور وتفسيرهم، فإن المعنى: يحلف بالله ويشهده أنّه صادقٌ، وقد جاءت الشهادة بمعنى القسم في آية اللِّعان، وقيل: فيكون اسم الله منتصبًا على حذف حرف الجر، أي: يقسم بالله، قال شهاب الدين: وهذا سهوٌ من قائله؛ لأنَّ المستعمل بمعنى القسم شَهِدَ الثلاثيٌّ، لا أَشْهَدَ الرباعيُّ، لا تقول: أُشْهِدُ بالله، بل: أَشْهَدُ بالله، فمعنى قراءة الجمهور: يطَّلع الله على ما في قلبه، ولا يعلم به أحدٌ، لشدة تكتُّمه.
وأمَّا تفسير الجمهور: فيحتاج إلى حذف ما يصحُّ به المعنى، تقديره: ويحلف بالله على خلاف ما في قلبه؛ لأن الذي في قلبه هو الكفر، وهو لا يحلف عليه، إنما يحلف على ضدِّه، وهو الذي يعجب سامعه، ويقوِّي هذا التأويل قراءة أبي حيوة؛ إذ معناها: ويطَّلع الله على ما قلبه من الكفر.
وأمَّا قراءة أُبيًّ: فيحتمل استَفْعَلَ وجهين:
أحدهما: أن يكون بمعنى أَفْعَلَ؛ فيوافق قراءة الجمهور.
والثاني: أنه بمعنى المجرَّد وهو شَهِدَ، وتكون الجلالة منصوبةً على إسقاط الخافض.
قوله: {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} الكلام في هذه الجملة كالتي قبلها، وهنا وجهٌ آخر، وهو أن تكون حالًا من الضمير في يُشْهِدُ، والألد: الشديد؛ من اللَّدد، وهو شدة الخصوة؛ قال: الخفيف:
إنَّ تَحْتَ التُّرَابِ عَزْمًا وحَزْمًا ** وَخَصِيمًا أَلَدَّ ذَا مِغْلاَقِ

ويقال: لَدِدت بكسر العين ألَدُّ بفتحها، ولدَدته بفتح العين ألُدُّه بضمها أي: غلبته في ذلك، فيكون متعديًا، قال الشاعر: الرجز:
تَلُدُّ أَقْرَانَ الرِّجَالِ اللُّدِّ

تلدُّ أقران الرِّجال، معناه أنّه في أي وجه أخذ خصمه من اليمين أو الشمال في أبواب الخصومة غلبه.
ورجل ألدُّ وألنددٌ ويلنددٌ، وامرأةٌ لدَّاء، والجمع لُدٌّ كحُمْرٍ.
وفي اشتقاقه أقوالٌ: قال الزجَّاج: من لُديدَي العنق، وهما صفحتاه.
وقيل: من لديدي الوادي، وهما جانباه، سمِّيا بذلك؛ لاعوجاجهما.
وقيل: هو من لدَّه إذا حبسه، فكأنه يحبس خصمه عن مفاوضته.
و{الخِصَامِ} فيه قولان:
أحدهما: قال الزجَّاج: وهو جمع خصمٍ بالفتح؛ نحو: كعبٍ وكعابٍ، وكلبٍ وكلابٍ، وبحرٍ وبحارٍ، وعلى هذا فلا تحتاج على تأويل.
والثاني: قال الخليل وأبو عبيد إنه مصدر، يقال: خاصمَ خصامًا، نحو قاتلَ قتالًا، وعلى هذا فلابد من مصحِّح لوقوعه خبرًا عن الجثَّة، فقيل: في الكلام حذف من الأول، أي وخصامه أشدُّ الخصام، وجعل أبو البقاء هو ضمير المصدر الذي هو {قوله} فإنه قال: ويجوز أن يكون هُوَ ضمير المصدر الذي هو {قَوْلُهُ} وهو خصام، والتقدير: خصامه ألدُّ الخصام.
وقيل: من الثاني: أي: وهو أشدُّ ذوي الخصام، وقيل: أريد بالمصدر اسم الفاعل؛ كما يوصف به في قولهم: رجل عدلٌ وخصمٌ، وقيل: أَفْعَلُ هنا ليست للتفضيل، بل هي بمعني لديد الخصام، فهو من باب ضافة الصفة المشبهة، وقال الزمخشريُّ: والخِصَامُ المُخَاصَمَةُ، وإضافةُ الألدِّ بمعنى في؛ كقولهم: ثَبْتُ الغَدْرِ يعني أن أَفْعَلَ ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه، بل هي ضافة على معنى في؛ قال أبو حيان: وهذا مخالفٌ لما يَزْعُمُهُ النحاة من أنَّ أَفْعَلَ لا تضاف إلا إلى ما هي بعضه، وفيه إثبات الإضافة بمعنى في، وهو قولٌ مرجوحٌ، وقيل: هُوَ ليس ضمير مَنْ بل ضمير الخصومة يفسِّره سياق الكلام، أي: وخصامه أشدُّ الخصام.
ومعنى: {وَيُشْهِدُ الله}، أي: يقول: اللَّهُ يعلم أَنَّي أقُولُ حَقًّا.
قوله تعالى: {وَإِذَا تولى سعى} {سَعَى} جوابُ إذا الشَّرطيَّة، وهذه الجُملةُ الشَّرطيةُ تحتملُ وجْهَيْنِ.
أحدهما: أن تكُونَ عطفًا على ما قبلها، وهو {يُعْجِبُكَ}، فتكون: إمَّا صلةً، أو صفةً حسب ما تقدَّم في مَنْ.
والثاني: أن تكُون مُستأَنفةً لمُجرَّدِ الإخبارِ بحالِهِن وقد تَمَّ الكلامُ عند قوله: {ألدُّ الخصام}.
والتّولِّي والسَّعْيُ يحْتَمِلان الحقيقة، أي: تولَّى ببدنِهِ عنك وسعَى بِقَدَمَيْهِ، والمُجازَ بأن يريدُ بالتولِّي الرُّجُوع عن القَوْلِ الأَوَّل، وبالسَّعي العمَل والكَسْبَ من السَّعاية، وهو مجازٌ شائعٌ؛ ومنه: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39]، وقال امرؤُ القَيسِ: الطويل:
لَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ ** كَفَانِي- وَلَمْ أَطْلُبْ- قليلٌ مِنَ المَالِ

وَلكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ ** وَقَدْ يُدْرِكُ المَجْدَ المُؤَثَّلَ أَمْثَالِي

وقال آخرُ: السريع:
أَسْعَى عَلَى حَيِّ بَنِي مَالِكٍ ** كُلُّ امْرِئ فِي شَأْنِهِ سَاعِي

والسَّاعيةُ بالقولِ ما يقْتَضِي التَّفْرِيق بينَ الأَخِلاَّءِ؛ قال القائل: السريع:
مَا قُلْتُ مَا قَالَ وُشَاةٌ سَعَوْا ** سَعْيَ عَدْوٍّ بَيْنَنَا يَرْجُفُ

وقال الضَّحَّاكُ: وإذا تَوَلَّى، أي: مَلَكَ الأَمْرَ، وصارَ واليًا سَعَى في الأَرض.
وقال مُجاهدٌ: إيضا وُلِّي، وعمل بالعُدوان، والظُّلم، أَمْسَكَ اللَّهُ المطر، وأهلك الحرث والنَّسل.
قوله: {فِي الأَرْضِ} مُتَعَلِّقٌ ب {سَعَى}، فإنْ قيل: مَعْلُومٌ أنَّ السَّعْيَ لا يكُونُ إلاَّ فِي الأَرْضِ قيل: لأنَّهُ يُفيدُ العُمُومَ، كأنه قيل: أيَّ مكانٍ حَلَّ فيه من الأرض أفسدَ فيه، فَيَدُلَّ لفظُ الأَرْضِ على كَثرةٍ فسادِهِ، إذ يلزَمُ مِنْ عمومِ الظَّرفِ عمومُ المَظْرُوفِ، و{ليُفْسِدَ} مُتَعَلّقٌ ب {سَعَى} علَّةً له.
قوله: {وَيُهْلِكَ الحَرْثَ} الجُمْهُورُ على: {يُهْلِكَ} بضمِّ اليَاءِ، وكسر اللام ونصب الكافِ.
{الحَرْثَ} مفعول به، وهي قراءةٌ واضِحَةٌ من: أَهْلَكَ يُهْلك، والنَّصبُ عطَفٌ على الفعل قبلُهُ، وهذا شبيهٌ بقوله تعالى: {وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98] فإنَّ قوله: {ليفْسِدَ} يَشْتَمِلُ على أَنَّهُ يُهْلَكُ الحَرْثَ والنَّسْلَ، فخصَّهُما بالذّكر لذلك.
وقرأ أُبيّ: {وليُهْلِكَ} بإظهارِ لام العِلَّةِ، وهي معنى قراءة الجَمهور، وقرأ أبو حَيوة- ورُويت عن ابن كثيرٍ وابن عمرو- {وَيَهْلِك الحَرْثُ والنَّسْلُ} بفتح الياءِ، وكسر اللام من هلك الثَّلاثي، و{الحَرْث} فاعلٌ، و{النَّسلُ} عطفٌ عليه.
وقرأ قومٌ: {ويُهْلِكُ الحَرْثَ} من أَهْلَكَ، و{الحَرْث} مفعولٌ به إلا أَنَّهُم رفعُوا الكاف.
وخُرِّجت على أربعةِ أوجهٍ: أن تكُونَ عَطْفًا على {يُعْجِبُك} أو على {سَعَى}؛ لأَنَّهُ في معنى المُستقبل، أو على خبر مُبْتَدأ للمفعول، {الْحَرْثُ} رفعًا، وَقَرَأَ أيضًا: {ويَهَلكُ} بفتح الياءِ واللام ورفعِ الكَافِ، {الحَرْثُ} رفعا على الفاعلية، وفتحُ عين المُضارع هنا شاذٌّ لفَتْحٍ عين ماضِيهِ، وَليس عينُهُ ولا لامُهُ حرفَ حَلْق، فهو مثلُ رَكَنَ يَرْكَنُ بالفتح فيهما.
و{الحرث} في اللُّغة: الشَّقُّ، ومنه المِحراثُ لام يُشقّ به الأرض، والحرث: كسب المالِ وجمعه، والحَرْثُ: الزَّرعُ، والحرَّاث الزرَّاع، وقد حرث، واحترثَ مثل: زَرَعَ وازْدَرَعَ.
ويقالُ: احرثِ القرآن؛ أي: ادرسه، وحَرَثتُ النَّاقة وأحرثْتُها، أي: سِرْتُ عليها حتَّى هزلت، وحرثت النَّارَ حرّكتها والمِحراث ما يحرك به نار التَّنور نقله الجوهري.
وقد تَقَدَّمَ.
والنَّسْلُ: مصدرُ نَسَلَ ينسُل، أي: خرج بِسُرعة، ومنه: نَسَلَ وَبَرُ البَعِير، ونَسَلَ ريشُ الطَّائر، أي: خَرَجَ وتطايَرَ وقال القُرطبيُّ: النَّسْلُ ما خرج من كُلِّ أنثى من ولدٍ وأصله الخروج، والسُّقُوط.
وقيل: النَّسلُ الخروج مُتتابعًا، ومنه: نُسَالُ الطَّائِر ما تتابع سقُوطه من ريشه؛ قال امرؤ القيس: الطويل:
وَإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّ خَلِيقَةٌ ** فَسلِّي ثِيَابي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ

وقوله: {مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء: 96] يحتملُ المعنيين.
والحَرْثَ وَالنَّسْلَ وإن كانا في الأصلِ مصدَرَيْنِ فإنهما هنا واقعان موقَعَ المفعولِ به.
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله} هذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ الوجهين المتقدِّمين في نظيرتها، أَعْني: كونها مستأنفةً، أو معطوفة على {يُعجِبُك}، وقد تقدَّم الخلافُ في الذي قام مقام الفاعل عند قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ} [البقرة: 11].
قوله: {أخذَتْهُ العزَّةُ}، أي حملتُه العِزَّةُ وحَمِيَّةُ الجاهلية على الفعل.
قوله: {بالإثم} أي: بالظلم وفي هذه الباءِ ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنْ تكونَ للتعديةِ، وهو قول الزمخشري فإنه قال: أَخَذْتُهُ بكذا إذا حَمَلْتهُ عليه، وأَلْزَمْتهُ إياه، أي: حَمَلتهُ العِزَّةُ على الإِثْم، وأَلْزَمَتْهُ ارتكابَه قال أبو حيان: وباء التعدية بابُها الفعلُ اللازمُ، نحو: {ذَهَبَ الله} [البقرة: 17]، {وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} [البقرة: 20]، ونَدَرَتِ التعديةُ بالباءِ في المتعدِّي نحو: صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ أي: جَعَلْتُ أَحدهما يَصُكُّ الآخرَ.
الثاني: أَنْ تكونَ للسببيةِ، بمعنى أنَّ إثمّه كان سببًا لأخذِ العِزَّة له؛ كما في قوله: الرمل:
أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ ** فَتَوَلَّى مُغْضَبًا فِعْلَ الضَّجِرْ

فتكونُ الباءُ بمعنى اللام، فتقول: فعلت هذا بسببك، ولسببك، وعاقَبْتُه لجِنَايتهِ، وبجنايَتهِ.
الثالث: أن تكونَ للمصاحبة؛ فتكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِن وفيها حينئذٍ وجهان:
أحدهما: أَنْ تكون حالًا مِنَ {العِزَّة} أي: مُلْتبسةً بالإِثمِ.
والثاني: أن تكونَ حالًا من المفعولِ، أي: أَخَذَتْهُ مُلْتبسًا بالإِثمِ.
قال القُرطبيُّ: وقيل: الباءُ بمعنى مَعَ أي: أخذته العِزَّةُ مع الإثم.
وفي قوله: {العِزَّةُ بالإِثْم} من عِلْمِ البديع التتميم وهو عبارةٌ عن إِرْداف الكلمةِ بأُخْرى، تَرْفَعُ عنها اللَّبسَ، وتقَرِّبُها مِنَ الفَهْم، وذلك أنَّ العزَّةَ تكونُ محمودةً ومَذمُومةً.
فَمِنْ مَجِيئها محمودةً: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] فلو أُطلِقَت لَتَوَهَّمَ فيها بعضُ مَنْ لا عنايةَ له المحمُودة؛ فقيل: {بالإِثْمِ} تَتْمِيمًا للمرادِ، فرُفِعَ اللَّبْسُ بها.
و{العِزَّةُ} القوَّةُ والغلبةُ مِنْ: عَزَّهُ يَعُزُّه، إِذا غلبهُ، ومنه {وَعَزَّنِي فِي الخطاب} [ص: 23].
وقيل: العزَّةُ هُنا: الحمِيَّة؛ قال الشَّاعرُ: الرمل:
أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ ** فَتَوَلَّى مُغْضَبًا فِعْلَ الضَّجِرْ

وقيل: العِزَّةُ هنا: المَنَعةُ وشِدَّةُ النَّفسِ، أي: اعتَزَّ في نفسه، فأَوقعَتْهُ تِلْك العزَّةُ في الإِثمِ، وألزمتْهُ إيَّاه.
قوله: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ}، حَسْبُهُ مبتدأٌ، و{جهنَّمُ} خبرُه أي: كافيهم جهنَّمُ، وقيل: {جَهَنَّمُ} فاعلٌ بحَسْبَ، ثُمَّ اختلف القائِلُ بذلك في حَسْب فَقِيل: هو بمعنى اسم الفاعلِ، أي: الكافي، وهو في الأَصْلِ مصدرٌ أُريد به اسمُ الفاعِل، والفاعِلُ- وهو جهنَّمُ- سَدَّ مَسَدَّ الخبر، وقَويَ حَسْبُ لاعتمادِهِ على الفاءِ الرابطةِ للجملةِ بما قبلَها، وهذا كلُّه مَعْنَى كلام أبي البقاء.
وقيل: بل حَسْبُ اسمُ فِعْلٍ، والقائِلُ بذلك اختلَفَ؛ فقيل: اسمُ فِعْلٍ ماضٍ، أي: كَفَاهُمْ وقِيل: فعلُ أمرٍ، أي: لِيَكفِيهم، إلاَّ أن إعرابَه ودخولَ حُرُوفِ الجَرِّ عليه يَمْنع كونه اسم فعل.
وقد تلخَّصَ أَنَّ حَسْبِ هل هو بمعنى اسم الفاعل وأَصْلُه مصدرٌ، أو اسمُ فعلٍ مَاضٍ، أو فِعْلُ أَمْر؟ وهو مِنَ الأَسماءِ اللازمةِ للإِضَافةِ، ولا يَتَعَرَّفُ بإضافته إلى معرفةٍ؛ تقولُ: مَرَرْتُ برجلٍ حَسْبِك، ويُنْصَبُ عنه التمييزُ، ويكونُ مبتدأً؛ فيُجَرُّ بباءٍ زائدةٍ، وخبرًا؛ فلا يُجَرُّ بها، ولا يُثّنَّى ولا يُجْمَعُ، ولا يؤَنَّثُ، وإنْ وَقَعَ صفةً لهذه الأشياءِ.
و{جهنَّمُ} اخَتَلَفَ الناسُ فيها فقال يونس وأكثر النُّحاة: هي اسمٌ للنَّار التي يعذَّب بها في الآخِرةِ وهي أعجميةٌ وعُرِّبَتْ، وأَصْلُها كِهِنَّام، فمنعُها من الصرَّف لِلعلمية والعُجمةِ.
وقيل: بل هي عربيةُ الأَصْلِ، والقائلون، بذلك اختلَفوا في نُونِها: هل هي زائدةٌ، أمْ أصليةٌ؟ فالصحيحُ أنها زائدةٌ، ووزنُها فَعَنَّلُ مُشتقةٌ من رَكِيَّةٌ جِهِنَّامٌ، أي: بعيدةُ القَعْر، وهي من الجَهْم، وهو الكراهةُ، وقيل: بل نُونُها أصليَّةٌ، ووزنُها فَعَلَّل؛ كعَدَبَّسٍ؛ قال: لأن فَعَنَّلًا مفقودٌ في كلامِهِم، وجعل زَوَنَّكًا فَعَلَّلًا أيضًا؛ لأنَّ الواوَ أصلٌ في بنات الأربعةِ؛ كوَرَنْتَلٍ، لكنَّ الصحيحَ إثباتُ هذا البناءِ، وجاءَتْ منه ألفاظٌ، قالوا: ضَغَنَّطٌ من الضَّغاطةِ، وهي الضَّخامةُ، وسَفَنَّجٌ وهَجَنَّفٌ لِلظّلِيم، والزَّوَنَّكُ: القصيرُ سُمِّيَ بذلك؛ لأنه يزوكُ في مِشْيَتِهِ، أي: يَتَبَخْتَرُ؛ قال حَسَّان: الكامل:
أَجْمَعْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَلأَمُ مَنْ مَشَى ** فِي فُحْشِ زَانِيَةٍ وَزَوْكِ غُرَابِ

وهذا كلُّه يدُلُّ على أنَّ النُونَ زائدةٌ في زَوَنَّكٍ وعلى هذا فامتِناعُها للتأنيثِ والعلَميةِ.
قوله: {وَلَبِئْسَ المهاد} المخصُوص بالذَّمِّ محذوفٌ، أي: وَلَبِئْسَ المِهادُ جَهَنَّمُ، وحَسَّنَ حَذْفَهُ هنا كونُ {المِهَادِ} وقعَ فاصِلةً.
وتقدَّمَ الكلامُ على بِئْسَ وحُذِفَ هذا المخصُوصُ بذلك على أنه مبتدأٌ، والجملةُ مِنْ نِعْمَ وبِئْسَ خبرُهُ، سواءٌ تقدَّمَ أو تأخَّرَ؛ لأنَّا لو جَعَلْنَاهُ خبرَ مبتدأ مَحْذُوفٍ، أو مُبتَدأٌ محذوفَ الخبرِ، ثم حذَفْنَاهُ، كُنَّا قد حَذَفْنَا الجملةَ بأَسْرها من غَيْرَ أنْ يَنُوبَ عنها شَيْءٌ، وأيضًا فإنَّه يَلْزَمُ مِنْ ذلك أَنْ تكونَ الجملةُ مُفْلَتَةً مِمَّا قبلها؛ إِذْ ليس لها مَوْضِعٌ من الإِعْرابِ، وليست مُعْترضةً، ولا مفسِّرةً، ولا صلةً.
والمِهَادُ فيه قولان:
أحدهما: أَنَّهُ جَمْعُ مَهْدٍ، وهو ما يُوطَّأُ للنوم قال تعالى: {فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الماهدون} [الذاريات: 48].
والثاني: أنه اسمٌ مُفْردٌ، سُمِّيَ به الفِرَاشُ المُوَطَّأُ للنَّوم وقِيل: المُسْتَقِر كقوله تعالى: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار} [إبراهيم: 29] وهذا مِنْ باب التَّهَكم والاستهزاءِ، أي: جُعِلَتْ جَهَنَّمُ لهم بَدَلَ مِهادٍ يَفْترشُونَهُ؛ وهو كقوله: الوافر:
وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ ** تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ

أي: القائمُ لهم مقامَ التحيةِ، الضربُ الوَجِيع. اهـ. باختصار.